الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)} {قل لمن ما في السموات والأرض قل الله} لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك. وقيل: في الكلام حذف تقديره فإذا لم يجيبوا {قل لله} وقال قوم: المعنى أنه أمر بالسؤال فكأنه لما لم يجيبوا سألوا فقيل لهم {قل لله} ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله. {كتب على نفسه الرحمة} لما ذكر تعالى أنه موجد العالم المتصرف فيهم بما يريد، ودل ذلك على نفاذ قدرته أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق وظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط، وقال به قوم هنا وأنه أريد حقيقة الكتب والمعنى أمر بالكتب في اللوح المحفوظ. وقيل: {كتب} هنا بمعنى وعد بها فضلاً وكرماً. وقيل: بمعنى أخبر. وقيل: أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم. وقيل: قضاها وأنفذها. وقال الزمخشري: أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيد ما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض، انتهى. و{الرحمة} هنا الظاهر أنها عامّة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا، وهي عبارة عن الاتصال إليهم والإحسان إليهم ولم يذكر متعلق الرحمة لمن هي فتعم كما ذكرنا. وقيل: الألف واللام للعهد، فيراد بها الرحمة الواحدة التي أنزلها الله تعالى من المائة {الرحمة} التي خلقها وأخر تسعة وتسعين يرحم بها عباده في الآخرة. وقال الزجاج: {الرحمة} إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، فلم يعاجلهم على كفرهم. وقيل: {الرحمة} لمن آمن وصدق الرسل. وفي صحيح مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي. {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} لما ذكر أنه تعالى رحم عباده ذكر الحشر وأن فيه المجازاة على الخير والشر، وهذه الجملة مقسم عليها ولا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرناه. وحكى المهدوي أن جماعة من النحويين قالوا: إنها تفسير للرحمة تقديره: أن يجمعكم، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من {الرحمة} وهو مثل قوله {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه} المعنى أن يسجنوه، وردّ ذلك ابن عطية بأن النون الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال: وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص من الواجب في القسم، انتهى. وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحداً مما ذكر نحو قوله تعالى: {وإما ينزغنك} وكذلك قوله: وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل له شروط ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم عليه، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى على خلاف القسم ويبطل ما ذكروه، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من الإعراب، فإذا قلت والله لأضربنّ زيداً، فلأضربنّ لا موضع له من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه، كانت جملة القسم والمقسم عليه في موضع رفع والجمع هنا قيل حقيقة أي {ليجمعنكم} في القبور إلى يوم القيامة، والظاهر أن {إلى} للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين {إلى يوم القيامة} وقيل: المعنى {ليجمعنكم} في الدنيا يخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة وقد تكون {إلى} هنا بمعنى اللام أي ليوم القيامة، كقوله تعالى: {إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} وأبعد من زعم أن {إلى} بمعنى في أي في يوم القيامة وأبعد منه من ذهب إلى أنها صلة والتقدير {ليجمعنكم} يوم القيامة، والظاهر أن الضمير في {فيه} عائد إلى يوم القيامة وفيه ردّ على من ارتاب في الحشر ويحتمل أن يعود على الجمع، وهو المصدر المفهوم من قولهم {ليجمعنكم}. {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} اختلف في إعراب {الذين} فقال الأخفش: هو بدل من ضمير الخطاب في {ليجمعنكم} وردّه المبرد بأن البدل من ضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية. فقال: ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله: {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال {الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا بدل البعض من الكل، انتهى. وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد، لأنه إذا جعلنا {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة كان {الذين} بدل بعض من كل، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر {الذين خسروا أنفسهم} منهم وقوله فيفيدنا إبدال {الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كل من كل، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش، أنه يجوز ومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز، وهذا كله مقرر في علم النحو. وقال الزجاج: {الذين} مرفوع على الابتداء والخبر قوله: {فهم لا يؤمنون} ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل: من يخسر نفسه فهو لا يؤمن، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون {الذين} منصوباً على الذمّ أي: أريد {الذين خسروا أنفسهم}؛ انتهى وتقديره بأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم بأذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع {الذين} جر نعتاً للمكذبين أو بدلاً منهم. وقال الزمخشري (فإن قلت): كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرهم والأمر بالعكس؟ (قلت): معناه {الذين خسروا أنفسهم} في علم الله لاختيارهم الكفر {فهم لا يؤمنون}؛ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال بقوله: لاختيارهم الكفر. {وله ما سكن في الليل والنهار} لما ذكر تعالى أنه له ملك ما حوى المكان من السموات والأرض، ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار وإن كان كل واحد من الزمان والمكان يستلزم الآخر، لكن النص عليهما أبلغ في الملكية وقدم المكان لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان وله قال الزمخشري وغيره، هو معطوف على قوله {لِلَّهِ} والظاهر أنه استئناف إخبار وليس مندرجاً تحت قوله: قل، و{سكن} هنا قال السدّي وغيره: من السكنى أي ما ثبت وتقرر، ولم يذكر الزمخشري غيره. قال: وتعديه ب {في} كما في قوله: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} وقالت فرقة: هو من السكون المقابل للحركة واختلف هؤلاء. فقيل: ثم معطوف محذوف أي وما تحرّك، وحذف كما حذف في قوله: {تقيكم الحر} والبرد وقيل: لا محذوف هنا واقتصر على الساكن لأن كل متحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك. وقيل: لأن السكون أكثر وجوداً من الحركة، وقال في قوله: {والنهار} لأن من المخلوقات ما يسكن بالنهار وينتشر بالليل، قاله مقاتل، ورجح ابن عطية القول الأول. قال: والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت، وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن، ألا ترى أن الفلك والشمس والقمر والنجوم السائحة والملائكة وأنواع الحيوان متحركة، والليل والنهار حاصران للزمان؛ انتهى. وليس بجيد لأنه قال لا يترتب العموم إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت، ولا ينحصر فيما ذكر، ألا ترى أنه يترتب العموم على قول من جعله من السكون وجعل في الكلام معطوفاً محذوفاً أي وما تحرك، وعلى قول من ادعى أن كل ما يتحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك، فكل واحد من هذين القولين يترتب معه العموم فلم ينحصر العموم فيما ذكر ابن عطية. {وهو السميع العليم} لما تقدم ذكر محاورات الكفار المكذبين وذكر الحشر الذي فيه الجزاء، ناسب ذكر صفة السمع لما وقعت فيه المحاورة وصفة العلم لتضمنها معنى الجزاء، إذ ذلك يدل على الوعيد والتهديد.
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} فطر خلق وابتدأ من غير مثال، وعن ابن عباس ما كنت أعرف معنى فطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها، وفطر أيضاً شق يقال فطر ناب البعير ومنه هل ترى من فطور؟ وقوله: ينفطرن منه. كشف الضر: أزاله، وكشفت عن ساقيها أزالت ما يسترهما. القهر: الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار. الوقر: الثقل في السمع يقال وقرت أذنه بفتح القاف وكسرها، وسمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت والوقر بفتح الواو وكسرها. أساطير: جمع أسطارة وهي الترهات قاله أبو عبيدة. وقيل: أسطورة كأضحوكة. وقيل: واحد أسطور. وقيل: إسطير وإسطيرة. وقيل: جمع لا واحد له مثل عباديد. وقيل: جمع الجمع يقال سطر وسطر، فمن قال: سطر جمعه في القليل على أسطر وفي الكثير على سطور ومن قال: سطر جمعه على أسطار ثم جمع أسطاراً على أساطير قاله يعقوب. وقيل: هو جمع جمع الجمع، يقال: سطر وأسطر ثم أسطار ثم أساطير ذكر ذلك عن الزجاج، وليس أسطار جمع أسطر بل هما جمعا قلة لسطر. قال ابن عطية: وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط؛ انتهى. وهذا لا تسميه النحاة اسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعاً وإن لم يلفظ له بواحد. نأى نأياً بعد وتعديته لمفعول منصوب بالهمزة لا بالتضعيف، وكذا ما كان مثله مما عينه همزة. وقف على كذا: حبس ومصدر المتعدي وقف ومصدر اللازم وقوف فرق بينهما بالمصدر. البغت والبغته: الفجأة يقال بغته يبغته أي فجأه يفجأه وهي مجيء الشيء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير علمك بوقت مجيئه. فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير. وقال أبو عبيد: فرّط ضيّع. وقال ابن بحر: فرّط سبق والفارط السابق، وفرط خلى السبق لغيره. الأوزار: الآثام والخطايا وأصله الثقل من الحمل، وزرته جملته وأوزار الحرب أثقالها من السلاح، ومنه الوزير لأنه يحمل عن السلطان أثقال ما يسند إليه من تدبير ملكه. اللهو: صرف النفس عن الجد إلى الهزل يقال منه لها يلهو ولهي عن كذا صرف نفسه عنه، والمادة واحدة انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها نحو شقي ورضي. قال المهدوي: الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم لهيان ولام الأول واو، انتهى. وهذا ليس بشيء لأن الواو في التثنية انقلبت ياء وليس أصلها الياء، ألا ترى إلى تثنية شج شجيان وهو من ذوات الواو من الشجو. {قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض} لما تقدّم أنه تعالى اخترع السموات والأرض، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ ولياً وناصراً ومعيناً لا الآلهة التي لكم، إذ هي لا تنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور، ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيداً وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإكرام أزيداً ضربت، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو، {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} {والله أذن لكم} وقال الطبري وغيره: أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم، فتجيء الآية على هذا جواباً لكلامهم، انتهى. وهذا يحتاج إلى سند في أن سبب نزول هذه الآية هو ما ذكره وانتصاب غير على أنها مفعول أول لاتخذ. وقرأ الجمهور {فاطر} فوجهه ابن عطية والزمخشري ونقلها الحوفي على أنه نعت لله، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت، إذ البدل على المشهور هو على تكرار العامل وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو. قال ابن عطية: أو على الابتداء؛ انتهى. ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه وقرئ شاذاً بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي على إرادة التنوين أو بدل منه أو حال، والمعنى على هذا أأجعل {فاطر السموات والأرض} غير الله، انتهى. والأحسن نصبه على المدح. وقرأ الزهري فطر جعله فعلاً ماضياً. {وهو يطعم ولا يطعم} أي يرزق ولا يرزق كقوله: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} والمعنى أن المنافع كلها من عند الله، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات لمس الحاجة إليه كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الانتفاع بالربا. وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وفي رواية عنه {ولا يطعم} بفتح الياء والمعنى أنه تعالى منزه عن الأكل ولا يشبه المخلوقين. وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة {ولا يطعم} بضم الياء وكسر العين مثل الأول فالضمير في {وهو يطعم} عائد على الله وفي {ولا يطعم} عائد على الولي. وروى ابن المأمون عن يعقوب {وهو يطعم ولا يطعم} على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير لغير الله، وقرأ الأشهب: {وهو يطعم ولا يطعم} على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك هو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر، وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل وهو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين وسماه أسامة بن منقذ في بديعته تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى. {قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم} قال الزمخشري: لأن النبيّ سابق أمته في الإسلام كقوله {وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} وكقول موسى {سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين} قال ابن عطية: المعنى أوّل من أسلم من هذه الأمّة وبهذه الشريعة، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك وهذا الذي قاله الزمخشري وابن عطية هو قول الحسن. قال الحسن: معناه أول من أسلم من أمتي. قيل: وفي هذا القول نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه، وإنما هذا على طريق التعريض على الإسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يتبعه بقوله أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعل ذلك. وقيل: أراد الأوّلية في الرتبة والفضيلة كما جاء نحن الآخرون الأوّلون وفي رواية السابقون. وقيل: {أسلم} أخلص ولم يعدل بالله شيئاً. وقيل: استسلم. وقيل: أراد دخوله في دين إبراهيم عليه السلام كقوله: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} وقيل: أول من أسلم يوم الميثاق فيكون سابقاً على الخلق كلهم، كما قال: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} ولا تكوننّ من المشركين} أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار. وقيل لي: لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ {إني أمرت أن أكون أول من أسلم} فيكون مندرجاً تحت لفظ {قل} إذ لو كان كذلك لكان التركيب ولا أكون من المشركين. وقيل: هو معطوف على معمول {قل} حملاً على المعنى، والمعنى قل إني قيل لي كن أول من أسلم، {ولا تكوننّ من المشركين} فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول، وفيه معناه فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على {قل} أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا. وقيل: هو نهى عن موالاة المشركين. وقيل: الخطاب له لفظاً والمراد أمته وهذا هو الظاهر لقوله {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} والعصمة تنافي إمكان الشرك. {قل إني أخاف إن عصيب ربي عذاب يوم عظيم} الظاهر أن الخوف هنا على بابه وهو توقع المكروه. وقال ابن عباس معنى {أخاف} أعلم و{عصيت} عامّة في أنواع المعاصي، ولكنها هنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهى عنه قاله ابن عطية. والخوف ليس بحاصل لعصمته بل هو معلق بشرط هو ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي. فقيل: هو شرط معترض لا موضع له من الإعراب كالاعتراض بالقسم. وقيل: هو في موضع نصب على الحال كأنه قيل إني أخاف عاصياً ربي. وقال أبو عبد الله الرازي: مثال الآية إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة متساويتين يعني أنه تعليق على مستحيل واليوم العظيم هو يوم القيامة. {من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه} قرأ حمزة وأبو بكر والكسائي {من يصرف} مبنياً للفاعل فمن مفعول مقدم والضمير في {يصرف} عائد على الله ويؤيده قراءة أبي {من يصرف} الله وفي {عنه} عائد على العذاب والضمير المستكن في {رحمه} عائد على الرب أي أيّ شخص يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه الرحمة العظمى وهي النجاة من العذاب، وإذا نجّى من العذاب دخل الجنة ويجوز أن يعرب {من} مبتدأ والضمير في {عنه} عائد عليه، ومفعول {يصرف} محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية قبل التقدير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه، وعلى هذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون {من} منصوباً بإضمار فعل يفسره معنى {يصرف} ويجوز على إعراب {من} مبتدأ أن يكون المفعول مذكوراً، وهو {يومئذ} على حذف أي هول يومئذ فينتصب {يومئذ} انتصاب المفعول به. وقرأ باقي السبعة {من يصرف} مبنياً للمفعول ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في {يصرف} عائداً على {من} وفي {عنه} عائداً على العذاب أي أيّ شخص يصرف عن العذاب، ويجوز أن يكون الضمير في {عنه} عائداً على {من} والضمير في {يصرف} عائداً على العذاب أيّ أيّ شخص يصرف العذاب عنه، ويجوز أن يكون الضميران عائدين على {من} ومفعول {يصرف} {يومئذ} وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في موضع رفع بيصرف والتنوين في {يومئذ} تنوين عوض من جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم، إذ يكون الجزاء إذ لم يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضاً عنها، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة {يصرف} مبنياً للفاعل لتناسب {فقد رحمه} ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد الله وأبي {من يصرف} الله ورجح الطبري قراءة {يصرف} مبنياً للمفعول قال: لأنها أقل إضماراً. قال ابن عطية: وأما مكي بن أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة. قال ابن عطية: وهذا توجيه لفظي يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف، وأما المعنى فالقراءتان واحد؛ انتهى. وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين المتواترتين. وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً كان لا يرى الترجيح بين القراءات السبع. وقال: قال ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة، لم أفضل إعراباً على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا، أحمد بن يحيى كان عالماً بالنحو واللغة متديناً ثقة. {وذلك الفوز المبين} الإشارة إلى المصدر المفهوم {من يصرف} أي وذلك الصرف هو الظفر والنجاة من الهلكة و{المبين} البين في نفسه أو المبين غيره. {وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} أي إن يصبك وينلك بضرّ وحقيقة المس تلاقي جسمين، ويظهر أن الباء في {بضر} وفي {بخير} للتعدية وإن كان الفعل متعدياً كأنه قيل: {وإن يمسسك الله} الضر فقد مسك، والتعدية بالباء في الفعل المتعدّي قليلة ومنها قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} وقول العرب: صككت أحد الحجرين بالآخر والضر بالصم سوء الحال في الجسم وغيره، وبالفتح ضد النفع وفسر السدّي الضر هنا بالسقم والخير بالعافية. وقيل: الضر الفقر والخير الغنى والأحسن العموم في الضر من المرض والفقر وغير ذلك، وفي الخير من الغنى والصحة وغير ذلك، وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه». أخرجه الترمذي. والذي يقابل الخير هو الشر وناب عنه هنا الضر وعدل عن الشر، لأن الشر أعم من الضر فأتي بلفظ الضر الذي هو أخص وبلفظ الخير الذي هو عام مقابل لعام تغليباً لجهة الرحمة. قال ابن عطية: ناب الضرّ هنا مناب الشر وإن كان الشر أعم منه، فقابل الخير وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والضعة فإن باب التكلف في ترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة، فمن ذلك {ألا تجوع فيها ولا تعرّى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} فجاء بالجوع مع العريّ وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس: كأني لم أركب جواد اللذة *** ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبا الزق الروى ولم *** أقل لخيلي كرى كرة بعد إجفال انتهى. والجامع في الآية بين الجوع والعريّ هو اشتراكهما في الخلو فالجوع خلو الباطن والعريّ خلو الظاهر وبين الظمأ والضحاء اشتراكهما في الاحتراق، فالظما احتراق الباطن ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي والضحاء احتراق الظاهر والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة وهي الصيد وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر والظفر بمثل هذا الركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركب هو فعل بمعنى مفعول أي مركوب قال الراجز: إن لها لركباً ارزباً *** كأنه جبهة ذرى حبا وفي البيت الثاني بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل؟ فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح وما أحسن بعقل امرئ القيس في بيتيه، حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشق أكثر من تعلقها بالصيد ولأن بذل الروح أعظم من بذل المال، ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ظاهرة لاتصاله بما قبله وهو الترهيب الدال عليه {قل إني أخاف} وما قبله وجاء جواب الأول بالحصر في قوله: {فلا كاشف له إلا هو} مبالغة في الاستقلال بكشفه وجاء جواب الثاني بقوله: {فهو على كل شيء قدير} دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخير أو غيره، ولو قيل: إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجهاً حسناً وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو والأحسن تقديره، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله وإن يردك بخير فلا راد لفضله ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر، وهو قدرته على كل شيء وفي قوله: {فلا كاشف له إلا هو} حذف تقديره فلا كاشف له عنك إلا هو. {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} لما ذكره تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم بل يفسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى و{فوق} حقيقة في المكان وأبعد من جعلها هنا زائدة، وأن التقدير وهو القاهر لعباده وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا حقيقة في المكان، وأنه تعالى حال في الجهة التي فوق العالم إذ يقتضي التجسيم وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز. فقال بعضهم: هو فوقهم بالإيجاد والإعدام. وقال بعضهم: هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم. وقال الزمخشري: تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله: {وإنا فوقهم قاهرون} انتهى. والعرب تستعمل {فوق} إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيره من الرتب ومنه قوله: {يد الله فوق أيديهم} وقوله: {وفوق كل ذي علم عليم} وقال النابغة الجعدي: بلغنا السماء مجداً وجوداً وسؤددا *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا يريد علو الرتبة والمنزلة. وقال أبو عبد الله الرازي: صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله: {وهو القاهر فوق عباده} إشارة إلى كمال القدرة {وهو الحكيم الخبير} إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهراً فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده، فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله: {قل اللهم مالك الملك} الآية. والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم، لأن {الخبير} إشارة إلى العلم فيلزم التكرار؛ انتهى، وفيه بعض اختصار وتلخيص. وقيل: {الحكيم} العالم والخبير} أيضاً العالم ذكره تأكيداً و{فوق} منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما: أنه القاهر الثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال: وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر. قال ابن عطية: ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطاً مطولاً ورددنا عليه. {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} قال المفسرون: سألت قريش شاهداً على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: أي دليل يشهد بأن الله يشهد لك؟ فقال: هذا القرآن تحديتكم به فعجزتم عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه، وقال الكلبي: قال رؤساء مكة: يا محمد ما نرى أحداً يصدقك فيما تقول في أمر الرسالة ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله هذه الآية. وقيل: سأل المشركون لما نزل {وإن يمسسك الله بضر} الآية فقالوا: من يشهد لك على أن هذا القرآن منزل من عند الله عليك وأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله؟ فقال الله وهذا القرآن المعجز و{أي} استفهام والكلام على أقسام أي وعلة إعرابها مذكور في علم النحو و{شيء} تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة وذكر الخلاف في مدلوله الحقيقي. وقال الزمخشري: الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجوهر والعرض والمحال والمستقيم، ولذلك صح أن يقال في الله عز وجل شيء لا كالأشياء كأنك قلت معلوم لا كسائر المعلومات ولا يصح جسم لا كالأجسام وأراد {أي شيء أكبر شهادة} فوضع شيئاً مكان {شهيد} ليبالغ في التعميم؛ انتهى. وقال ابن عطية: وتتضمن هذه الآية أن الله عز وجل يقال عليه شيء كما يقال عليه موجود ولكن ليس كمثله شيء، وقال غيرهما هنا شيء يقع على القديم والمحدث والجوهر والعرض والمعدوم والموجود ولما كان هذا مقتضاه، جاز إطلاقه على الله عز وجل واتفق الجمهور على ذلك وخالف الجهم وقال: لا يطلق على الله شيء ويجوز أن يسمى ذاتاً وموجوداً وإنما لم يطلق عليه شيء لقوله {خالق كل شيء} فيلزم من إطلاق شيء عليه أن يكون خالقاً لنفسه وهو محال ولقوله: {ولله الأسماء الحسنى} والإسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة كمال ونعت جلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون حاصلاً في أخس الأشياء وأرذلها، فلا يدل على صفة كمال ولا نعت جلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله به لما لم يكن من الأسماء الحسنى، ولتناوله المعدوم لقوله {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً} فلا يفيد إطلاق شيء عليه امتياز ذاته على سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة مميزة، ولا يفيد كونه مطلقاً فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى ولقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} وذات كل شيء مثل نفسه فهذا تصريح بأنه تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة لأن جعل كلمة من القرآن عبثاً باطلاً لا يليق ولا يصار إليه إلا عند الضرورة الشديدة. وأجيب بأن لفظ شيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العامّ فمتى صدق كونه ذاتاً حقيقة وجب أن يصدق كونه شيئاً واحتج الجمهور بهذه الآية وتقريره أن المعنى أي الأشياء أكبر شهادة، ثم جاء في الجواب {قل الله} وهذا يوجب إطلاق شيء عليه واندراجه في لفظ شيء المراد به العموم ولو قلت أي الناس أفضل؟ فقيل: جبريل لم يصح لأنه لم يندرج في لفظ الناس، وبقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} والمراد بوجهه ذاته والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه فدل على أنه يطلق عليه شيء ولجهم أن يقول: هذا استثناء منقطع، والدليل الأول لم يصرح فيه بالجواب المطابق إذ قوله: {قل الله شهيد بيني وبينكم} مبتدأ وخبر ذي جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها من جهة الصناعة الإعرابية بل قوله: {أي شيء أكبر شهادة} هو استفهام على جهة التقرير والتوقيف، ثم أخبر بأن خالق الأشياء والشهود هو الشهيد بيني وبينكم وانتظم الكلام من حيث المعنى فالجملة ليست جواباً صناعياً وإنما يتم ما قالوه لو اقتصر على {قل الله}، وقد ذهب إلى ذلك بعضهم فأعربه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل الله أكبر شهادة ثم أضمر مبتدأ يكون {شهيد} خبراً له تقديره هو {شهيد بيني وبينكم} ولا يتعين حمله على هذا، بل هو مرجوح لكونه أضمر فيه آخراً وأولاً والوجه الذي قبله لا إضمار فيه مع صحة معناه فوجب حمل القرآن على الراجح لا على المرجوح. وقال ابن عباس: قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإن أجابوك وإلا فقل لهم: {الله شهيد بيني وبينكم}. وقال مجاهد: المعنى أن الله قال لنبيه: قل لهم: {أي شيء أكبر شهادة} وقل لهم الله شهيد بيني وبينكم} أي في تبليغي وكذبكم وكفركم. وقال ابن عطية: هذه الآية مثل قوله: {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} في أن استفهم على جهة التوقيف والتقرير، ثم بادر إلى الجواب إذ لا يتصوّر فيه مدافعة كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر في البلد؟ ثم تبادر وتقول: السلطان فهو يحول بيننا، فتقدير الآية: قل لهم أيّ شيء أكبر شهادة هو شهيد بيني وبينكم، انتهى. وليست هذه الآية نظير قوله: {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} لأن لله يتعين أن يكون جواباً وهنا لا يتعين إذ ينعقد من قوله: {قل الله شهيد بيني وبينكم} مبتدأ وخبر وهو الظاهر، وأيضاً ففي هذه الآية لفظ شيء وقد تتوزع في إطلاقه على الله تعالى وفي تلك الآية لفظ من وهو يطلق على الله تعالى. قيل: معنى {أكبر} أعظم وأصح، لأنه لا يجري فيها الخطأ ولا السهو ولا الكذب. وقيل: معناها أفضل لأن مراتب الشهادات في التفضيل تتفاوت بمراتب الشاهدين وانتصب {شهادة} على التمييز. قال ابن عطية: ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل؛ انتهى. وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعل من لا يتشبه بالصفة المشبهة باسم الفاعل، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل لأن شرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع، وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولاً وجعل {أكبر} مشبهاً بالصفة المشبهة وجعل منصوبه مفعولاً وهذا تخليط فاحش ولعله يكون من الناسخ لا من المصنف، ومعنى {بيني وبينكم} بيننا ولكنه لما أضيف إلى ياء المتكلم لم يكن بد من إعادة بين وهو نظير قوله فأيي ما وأيك كان شرًّا. وكلاي وكلاك ذهب أن معناه فأينا وكلانا. {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} قرأ الجمهور {وأوحي} مبنياً للمفعول و{القرآن} مرفوع به. وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري {وأوحى} مبنياً للفاعل و{القرآن} منصوب به، والمعنى لأنذركم ولأبشركم فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه أو اقتصر على الإنذار لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهاً، والظاهر وهو قول الجمهور إن {من} في موضع نصب عطفاً على مفعول {لأنذركم} والعائد على {من} ضمير منصوب محذوف وفاعل {بلغ} ضمير يعود على {القرآن} ومن بلغه هو أي {القرآن} والخطاب في {لأنذركم به} لأهل مكة. وقال مقاتل: ومن بلغه من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: «من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره» وقالت فرقة: الفاعل ب {بلغ} عائد على {من} لا على {القرآن} والمفعول محذوف والتقدير ومن بلغ الحلم، ويحتمل أن يكون {من} في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في {لأنذركم به} وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن. {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} قرئ {إنكم لتشهدون} بصورة الإيجاب فاحتمل أن يكون خبراً محضاً واحتمل الاستفهام على تقدير حذف أداته ويبين ذلك قراءة الاستفهام، فقرئ بهمزتين محققتين وبإدخال ألف بينهما وبتسهيل الثانية وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المسهلة، روى هذه القراءة الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو ونافع، وهذا الاستفهام معناه التقريع لهم والتوبيخ والإنكار عليهم فإن كان الخطاب لأهل مكة فالآلهة الأصنام فإنهم أصحاب أوثان، وإن كان لجميع المشركين فالآلهة كل ما عبد غير الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة، كقوله: {مآرب أخرى والأسماء الحسنى} ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً أجريت هذا المجرى. {قل لا أشهد إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} أمره تعالى أن يخبرهم أنه لا يشهد شهادتهم وأمره ثانياً أن يفرد الله تعالى بالإلهية، وأن يتبرأ من إشراكهم وما أبدع هذا الترتيب أمر أولاً بأن يخبرهم بأنه لا يوافقهم في الشهادة ولا يلزم من ذلك إفراد الله بالألوهية فأمر به ثانياً ليجتمع مع انتفاء موافقتهم إثبات الوحدانية لله تعالى، ثم أخبر ثالثاً بالتبرؤ من إشراكهم وهو كالتوكيد لما قبله، ويحتمل أن لا يكون ذلك داخلاً تحت القول ويحتمل وهو الظاهر أن يكون داخلاً تحته فأمر بأن يقول الجملتين، فظاهر الآية يقتضي أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنها نزلت في قوم من اليهود وأسند إلى ابن عباس قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب ومجزئ بن عمرو فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهاً غيره فقال: لا إله إلا الله بذلك أمرت فنزلت الآية فيهم. {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة وشرح الثانية في هذه السورة من قريب، وقالوا هنا الضمير في {يعرفونه} عائد على الرسول قاله قتادة والسدي وابن جريج والجمهور، ومنهم عمر بن الخطاب، أو على التوحيد وذلك لقرب قوله: {قل إنما هو إله واحد} وفيه استشهاد على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب أو على القرآن قاله فرقة لقوله: {وأوحي إليّ هذا القرآن}. وقيل يعود على جميع هذه الأشياء من التوحيد والرسول والقرآن، كأنه ذكر أشياء ثم قال أهل الكتاب {يعرفونه} أي يعرفون ما قلنا وما قصصنا. وقيل: يعود على كتابهم أي: يعرفون كتابهم وفيه ذكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: يعود على الدين والرسول فالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله وأن محمد رسول الله و{الذين آتيناهم الكتاب} هنا لفظه علم ويراد به الخاص، فإن هذا لا يعرفه ولا يقربه إلا من آمن منهم أو من أنصف و{الكتاب} التوراة والإنجيل ووحد رداً إلى الجنس. وقيل: {الكتاب} هنا القرآن والضمير في {يعرفونه} عائد عليه ذكره الماوردي. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: إن كان المكتوب في التوراة والإنجيل خروج نبي في آخر الزمان فقط، فلا يتعين أن يكون هو محمداً صلى الله عليه وسلم أو معيناً زمانه ومكانه ونسبه وحليته وشكله، فيكونون إذ ذاك عالمين به بالضرورة ولا يجوز الكذب على الجمع العظيم ولأنا نعلم بالضرورة أن كتابهم لم يشتمل على هذه التفاصيل التامة وعلى هذين التقديرين، فكيف يصح أن يقال: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}، وأجاب بأنهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال وكانوا شاهدوا ظهور المعجزات على يد الرسول فعرفوا بالمعجزات كونه رسولاً من عند الله، فالمقصود تشبيه معرفته بمعرفة أبنائهم بهذا القدر الذي ذكرناه؛ انتهى. ولا يلزم ذلك التقسيم الذي ذكره لأنه لم يقل يعرفونه بالتوراة والإنجيل إنما ذكر {يعرفونه} فجاز أن تكون هذه المعرفة مسندة إلى التوراة والإنجيل من أخبار أنبيائهم ونصوصهم، فالتفاصيل عندهم من ذلك لا من التوراة والإنجيل فيكون معرفتهم إياه مفصلة واضحة بالأخبار لا بالنظر في المعجزات {كما يعرفون أبناءهم} وأيضاً فلا نسلم له حصر التقسيم فيما ذكره لأنه يحتمل قسماً آخر وهو أن يكون التوراة والإنجيل يدلان على خروج نبي في آخر الزمان، وعلى بعض أوصافه لا على جميع الأوصاف التي ذكرت من تعيين زمان ومكان ونسب وحلية وشكل، ويدل على هذا القسم حديث عمر مع عبد الله بن سلام وقوله له: إن الله أنزل على نبيه بمكة إنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: نعم أعرفه بالصفة التي وصفه الله بها في التوراة؟ فلا أشك فيه وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه، ومما يدل أيضاً على أن معرفتهم إياه لا يتعين أن يكون مستندها التوراة والإنجيل فقط، أسئلة عبد الله بن سلام حين اجتمع أول اجتماعه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ فحين أخبره بجواب تلك الأسئلة أسلم للوقت وعرف أنه الرسول الذي نبه عليه في التوراة، وحديث زيد بن سعنة حين ذكر أنه عرف جميع أوصافه صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يعرف أن حلمه يسبق غضبه فجرب ذلك منه، فوجد هذه الصفة فأسلم وأعرب {الذين خسروا} مبتدأ والخبر {فهم لا يؤمنون} والذين خسروا} على هذا أعم من أهل الكتاب الجاحدين ومن المشركين، والخسران الغبن وروي أن لكل عبد منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار، فالخسارة والربح هنا وجوزوا أن يكون {الذين خسروا} نعتاً لقوله: {الذين آتيناهم الكتاب} و{فهم لا يؤمنون} جملة معطوفة على جملة فيكون مساق الذين آتيناهم الكتاب} مساق الذم لا مقام الاستشهاد بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب، قالوا: لأنه لا يصح أن يستشهد بهم ويذموا في آية واحدة. وقال ابن عطية: يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه وأن الذم والاستشهاد من جهة واحدة؛ انتهى. ويكون {الذين خسروا} إذ ذاك ليس عاماً إذ التقدير الذين خسروا أنفسهم منهم أي من أهل الكتاب. {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون} تقدم الكلام على {ومن أظلم} والافتراء الاختلاف، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله. قال الزمخشري: جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ونسبوا إليه تحريم السوائب والبحائر وكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول؛ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال بقوله: حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا. وقال ابن عطية: {ممن افترى} اختلق والمكذب بالآيات مفتري كذب ولكنهما من الكفر فلذلك نصا مفسرين؛ انتهى. ومعنى {لا يفلح الظالمون} لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة، بل يبقون في الحرمان والخذلان ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم والظالم غير الأظلم وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم؟. {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} قيل: {يوم} معمول لا ذكر محذوفة على أنه مفعول به قاله ابن عطية وأبو البقاء. وقيل: لمحذوف متأخر تقديره {ويوم نحشرهم} كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف قاله الزمخشري. وقيل: العامل انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم. وقيل: هو مفعول به لمحذوف تقديره وليحذروا يوم نحشرهم. وقيل: هو معطوف على ظرف محذوف، والعامل فيه العامل في ذلك الظرف والتقدير أنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم قاله الطبري. وقرأ الجمهور {نحشرهم} {ثم نقول} بالنون فيهما. وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء. وقرأ أبو هريرة {نحشرهم} عائد على الذين افتروا على الله الكذب، أو كذبوا بآياته وجاء {ثم نقول للذين أشركوا} بمعنى ثم نقول لهم ولكنه نبه على الوصف المترتب عليه توبيخهم ويحتمل أن يعود على الناس كلهم وهم مندرجون في هذا العموم ثم تفرد بالتوبيخ المشركون. وقيل: الضمير عائد على المشركين وأصنامهم ألا ترى إلى قولهم {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله} وعطف ب {بثم} للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم، و{أين شركاؤكم} سؤال توبيخ وتقريع وظاهر مدلول {أين شركاؤكم} غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة فكأنهم غيب عنهم وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فيروا مكان خزيهم وحسرتهم، انتهى. والمعنى أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء، وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام، ولذلك قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب وإنما خص القرآن لأنه ينطلق على مجرد الذكر والقول ومنه قول الشاعر: تقول هلكنا وإن هلكت وإنما *** على الله أرزاق العباد كما زعم وقال ابن عطية: وعلى هذا الحد يقول سيبوية: زعم الخليل ولكن ذلك يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله؛ انتهى. وحذف مفعولاً {يزعمون} اختصاراً إذ دل ما قبله على حذفهما والتقدير تزعمونهم شركاء، ويحسن أن يكون التقدير كما قال بعضهم: {أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} أنها تشفع لكم عند الله عز وجل. {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشيء والإعجاب به كما تقول: فتنت بزيد فعلى هذا يكون المعنى، ثم لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإنكار لها، وفي هذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدّعي مودّة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودّتك لفلان إلا أن عاديته وباينته والمعنى على {ثم لم تكن} بمعنى مودّتهم وإعجابهم بالأصنام إلا البراءة منهم باليمين المؤكدة لبراءتهم، وتكون الفتنة واقعة في الدنيا وشرحت أيضاً بالاختبار والمعنى: ثم لم يكن اختبارنا إياهم إذ السؤال عن الشركاء وتوقيفهم اختبار لإنكارهم الإشراك وتكون الفتنة هنا واقعة في القيامة، أي: ثم لم يكن جواب اختبار نالهم بالسؤال عن شركائهم إلا إنكار التشريك؛ انتهى، ملخصاً من كلام ابن عطية مع بعض زيادة. وقال الزمخشري: {فتنتهم} كفرهم والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا: دين آبائنا إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به، ويجوز أن يراد ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا: فسمى فتنة لأنه كذب؛ انتهى. والشرح الأول من شرح ابن عطية معناه للزجاج والأول من تفسير الزمخشري لفظه للحسن، ومعناه لابن عباس والثاني لمحمد بن كعب وغيره. قال: التقدير ثم لم يكن جوابهم {إلا أن قالوا} وسمي هذا القول فتنة لكونه افتراءً وكذباً. وقال الضحاك: الفتنة هنا الإنكار أي ثم لم يكن إنكارهم. وقال قتادة: عذرهم. وقال أبو العالية: قولهم. وقال عطاء وأبو عبيدة: بينتهم وزاد أبو عبيدة التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة. وقيل: حجتهم، والظاهر أن الضمير عائد على المشركين وأنه عام فيمن أشرك. وقال الحسن: هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، وقيل: هم قوم كانوا مشركين ولم يعلموا أنهم مشركون فيحلفون على اعتقادهم في الدنيا. وقرأ الجمهور {ثم لم تكن} وحمزة والكسائي بالياء وأبي وابن مسعود والأعمش وما كان فتنتهم، وطلحة وابن مطرف ثم ما كان والابنان وحفص {فتنتهم} بالرفع وفرقة ثم لم يكن بالياء، و{فتنتهم} بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على الأشهر قراءة ثم لم يكن {فتنتهم} بالياء بالنصب، لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا إن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه هو الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا} {وما كان حجتهم إلا أن قالوا} ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر، والفتنة اسم يكن والخبر {إلا أن قالوا} جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ {ثم لم تكن} بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث الفتنة والإعراب كإعراب ما تقدم قبله، ومن قرأ {ثم لم تكن} بالتاء {فتنتهم} بالنصب فالأحسن أن يقدر {إلا أن قالوا} مؤنثاً أي {ثم لم تكن فتنتهم} إلا مقالتهم. وقيل: ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى. قال أبو علي: وهذا كقوله تعالى: {فله عشر أمثالها} فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى. وقال الزمخشري: وقرئ {تكن} بالتاء و{فتننتهم} بالنصب وإنما أنث {أن قالوا} لوقوع الخبر مؤنثاً كقوله: من كانت أمك؛ انتهى. وتقدم لنا أن الأولى أن يقدر {أن قالوا} بمؤنث أي إلا مقالتهم. وكذا قدره الزجاج بمؤنث أي مقالتهم، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من، لأن من لها لفظ مفرد ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر نحو {ومنهم من يستمعون إليك} ونكن مثل من يا ذئب يصطحبان. ومن تقنت في قراءة التاء فليست تأنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أية امرأة كانت أمك. وقرأ الأخوان {والله ربنا} بنصب الباء على النداء أي يا ربنا، وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين والله ربنا برفع الاسمين. قال ابن عطية: وهذا على تقديم وتأخير أنهم قالوا: {ما كنا مشركين} {والله ربنا} ومعنى {ما كنا مشركين} جحدوا إشراكهم في الدنيا، روي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم؟ فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان وهذا الذي روي مخالف لظاهر الآية، وهو {ويوم نحشرهم جميعاً} ثم نقول فظاهره أنه لا يتراخى القول عن الحشر هذا التراخي البعيد من دخول العصاة المؤمنين النار وإقامتهم فيها ما شاء الله وإخراجهم منها، ثم بعد ذلك كله يقال لهم أين شركاؤكم؟ وأتى رجل إلى ابن عباس فقال: سمعت الله يقول: {والله ربنا ما كنا مشركين} وفي أخرى {ولا يكتمون الله حديثاً} فقال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا: تعالوا فلنجحد وقالوا: {ما كنا مشركين} فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً. {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} الخطاب للرسول عليه السلام والنظر قلبي و{كيف} منصوب ب {كذبوا} والجملة في موضع نصب بالنظر لأن {انظر} معلقة و{كذبوا} ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد. قال الزمخشري (فإن قلت): كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته. (قلت): الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً، ألا تراهم يقولون {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم، وأما قول من يقول معناه و{ما كنا مشركين} عند أنفسنا أو ما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله: انظر كيف كذبوا على أنفسهم} يعني في الدنيا فتحمل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإفحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا بمنطبقٍ عليه، وهو ناب عنه أشدّ النبوّ وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون} بعد قوله: {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا؛ انتهى. وقول الزمخشري. وأما قول من يقول فهو إشارة إلى أبي عليّ الجبائي والقاضي عبد الجبار ومن وافقهما أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واستدلوا بأشياء تؤول إلى مسألة القبح والحسن، وبناء ما قالوه عليها ذكرها أبو عبد الله الرازي في تفسيره فتطالع هناك، إذ مسألة التقبيح والتحسين خالفوا فيها أهل السنة وجمهور المفسّرين، يقولون: إن الكفار يكذبون في الآخرة وظواهر القرآن دالة على ذلك وقد خالف الزمخشري هنا أصحابه المعتزلة ووافق أهل السنة. {وضل عنهم ما كانوا يفترون} يحتمل أن تكون {ما} مصدرية وإليه ذهب ابن عطية قال: معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكفرهم بادعائهم لله الشركاء. وقيل: من اليمين الفاجرة في الدار الآخرة وقيل عزب عنهم افتراؤهم للحيرة التي لحقتهم، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي وإليه ذهب الزمخشري. قال: وغاب {عنهم ما كانوا يفترون} ألوهيته وشفاعته وهو معنى قول الحسن وأبي عليّ قالا: لم يغن عنهم شيئاً ما كانوا يعبدون من الأصنام في الدنيا. وقيل: هو قولهم ما كنا {نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فذهب عنهم حيث علموا أن لا تقريب منهم، ويحتمل أن يكون {وضل} عطف على كذبوا فيدخل في خبر {انظر} ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه. {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً}. روى أبو صالح عن ابن عباس أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأمية وأبياً استمعوا للرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال: ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان صاحب أشعار جمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدث قريشاً فيستمعون له فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقاً. فقال أبو جهل: كلا لا تقر بشيء من هذا وقال الموت أهون من هذا، فنزلت والضمير في {ومنهم} عائد على الذين أشركوا، ووحد الضمير في {يستمع} حملاً على لفظ {من} وجمعه في {على قلوبهم} حملاً على معناها والجملة من قوله: {وجعلنا} معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل: الواو واو الحال أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدّمت صارت حالاً والأكنة جمع كنان كعنان وأعنة والكنان الغطاء الجامع. قال الشاعر: إذا ما انتضوها في الوغى من أكنة *** حسبت بروق الغيث هاجت غيومها و {أن يفقهوه} في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه. وقيل: المعنى أن {لا يفقهوه} وتقدّم نظير هذين التقديرين. وقرأ طلحة بن مصرّف {وقرأ} بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن {آذانهم} وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل، والظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعه ألا تراهم قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} فلما لم يتدبروا ولم يصغوا كانوا بمنزلة من على قلبه غطاء وفي أذنه وقر. وقال قوم: ذلك حقيقة وهو لا يشعر به كمداخلة الشيطان باطن الإنسان وهو لا يشعر به، ونحا الجبائي في فهم هذه الأية منحى آخر غير هذا فقال: كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله: {وفي آذانهم وقراً}. وقيل: إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان. وقيل: لما أصرُّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى. وقيل: لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه، فيقول: {وجعلنا على قلوبهم أكنة}. وقيل: يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا: قلوبنا في أكنة وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة، وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال: الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله: {وجعلنا} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم {وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} انتهى. وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين. قال ابن عطية: وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله. {وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن {في آذانهم وقراً} انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفاً والماء الملح عذباً وتصيير الطعام القليل كثيراً وما أشبه ذلك. وقال ابن عباس: {كل آية} كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة؛ انتهى. ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه. {حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأوّلين} {يجادلونك} أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة، وهذا إشارة إلى القرآن وجعلهم إياه من {أساطير الأولين} قدح في أنه كلام الله. قيل: كان النضر يعارض القرآن بإخبار اسفنديار ورستم. وقال ابن عباس: مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؛ انتهى. وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنه في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن، والمعنى أنهم في الاحتجاج؛ انتهى. أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل، ومجيء الجملة الشرطية ب {إذا} بعد {حتى} كثير جدًّا في القرآن، وأوّل ما وقعت فيه قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة لإذا ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط {حتى} التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها المبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيداً ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان ما بعدها منصوباً و{حتى} إذا وقعت بعدها {إذا} يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أن فيكون التقدير فإذا {جاؤوك يجادلونك} يقول أو يكون التقدير {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره؟ إلى أن يقولوا: {إن هذا إلا أساطير الأولين} في وقت مجيئهم مجادليك لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى {حتى إذا} وتركيب {حتى إذا} لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية ونحو قوله: فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال: أقتلت، أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام، نحو قوله: {آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً} التقدير فأتوه بها ووضعها بين الصدقين {حتى إذا} ساوى بينهما قال: انفخوا فنفخه {حتى إذا جعله ناراً} بأمره وإذنه قال آتوني أفرغ ولهذا قال الفراء {حتى إذا} لا بد أن يتقدمها كلام لفظاً أو تقديراً، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام حتى مستوفاة ودخولها على الشرط، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ومذهب غيرهما. وقال الزمخشري: هنا هي {حتى} التي تقع بعدها الجمل والجملة قوله: {إذا جاؤوك} {يقول الذين كفروا} و{يجادلونك} في موضع الحال؛ انتهى. وهذا موافق لما ذكرناه، ثم قال: ويجوز أن تكون الجارة ويكون {إذا جاؤوك} في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم و{يجادلونك} حال وقوله: {يقول الذين كفروا} تفسير والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات، إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون: {إن هذا إلا أساطير الأولين} فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب وهي الغاية في التكذيب؛ انتهى. وما جوّزه الزمخشري في {إذا} بعد {حتى} من كونها مجرورة أوجبه ابن مالك في التسهيل، فزعم أن {إذا} تجر ب {بحتى}. قال في التسهيل: وقد تفارقها، يعني {إذا} الظرفية مفعولاً بها ومجرورة ب {بحتى} أو مبتدأ وما ذهب إليه الزمخشري في تجويزه أن تكون {إذا} مجرورة ب {بحتى}، وابن مالك في إيجاب ذلك ولم يذكر قولاً غيره خطأ وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرح التسهيل، وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك فقال هنا أبو البقاء {حتى إذا} في موضع نصب لجوابها وهو {يقول} وليس لحتى هاهنا عمل وإنما أفادت معنى الغاية، كما لا تعمل في الجمل و{يجادلونك} حال من ضمير الفاعل في {جاؤوك} وهو العامل في الحال، يقول جواب {إذا} وهو العامل في إذا؛ انتهى. {وهم ينهون عنه وينأون عنه} روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا الرسول وأتباعه وكانوا يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون سوءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت ديناً لا محالة أنه *** من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وقال محمد بن الحنفية والسدي والضحاك: نزلت في كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول ويتباعدون بأنفسهم عنه، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي، والظاهر أن الضمير في قوله: {وهم} يعود على الكفار وهو قول الجمهور، واختاره الطبري وفي قوله: {عنه} يعود إلى القرآن وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في {يفقهوه} وهو المشار إليه بقولهم {إن هذا} وهو قول قتادة ومجاهد، والمعنى أنهم {ينهون} غيرهم عن اتباع القرآن وتدبر و{ينأون} بأنفسهم عن ذلك. وقيل: الضمير في {عنه} عائد على الرسول إذ تقدم ذكره في قوله: {ومنهم من يستمع إليك وحتى إذا جاؤوك يجادلونك} فيكون ذلك التفاتاً وهو خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير في {وهم} عائد على الكفار المتقدم ذكرهم، والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ونهى غيرهم عن اتباعه فضلوا وأضلوا، وتقدم أن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول. وقيل: الضمير في {وهم} عائد على أبي طالب ومن وافقه على حماية الرسول والضمير في {عنه} عائد على الرسول، والمعنى {وهم ينهون عنه} من يريد إذايته ويبعدون عنه بترك إيمانهم به واتباعهم له فيفعلون الشيء وخلافه، وهو قول ابن عباس وأيضاً والقاسم بن محمد وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومقاتل وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول ونسبة هذا إلى أبي طالب وتابعيه بلفظ {وهم} الظاهر عوده على جماعة الكفار وجماعتهم لم ينهوا عن إذاية الرسول هي نسبة لكل الكفار بما صدر عن بعضهم، فخرجت العبارة عن فريق منهم بما يعم جميعهم لأن التوبيخ على هذه الصورة أشنع وأغلظ حيث ينهون عن إذايته ويتباعدون عن اتباعه وهذا كما تقول في التشنيع على جماعة منهم سراق ومنهم زناة ومنهم شربة خمر، هؤلاء سراق وزناة وشربة خمر وحقيقته أن بعضهم يفعل ذا وبعضهم ذا وكان المعنى ومنهم من يستمع ومنهم من ينهى عن إذايته ويبعد عن هدايته وفي قوله: {ينهون وينأون} تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالها {وينأون} انفردت بالهمزة ومنه {وهم يحسبون أنهم يحسنون} ويفرحون ويمرحون والخيل معقود في نواصيها الخير، وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحريف وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين. وأنشد عليه: إن لم أشن على ابن هند غارة *** لنهاب مال أو ذهاب نفوس وذكر غيره أن تجنيس التحريف، هو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين كقول بعض العرب: وقد مات له ولد اللهم أني مسلم ومسلم. وقال بعض العرب: اللهي تفتح اللهى. وقرأ الحسن وينون بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون وهو تسهيل قياسي. {وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون} قبل هذا محذوف تقديره {وهم ينهون عنه وينأون عنه} أي عن الرسول أو القرآن قاصدين تخلّي الناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود في النار {وإن} نافية بمعنى ما ونفي الشعور عنهم بإهلاكهم أنفسهم مذمة عظيمة لأنه أبلغ في نفي العلم إذ البهائم تشعر وتحس فوبال ما راموا حل بأنفسهم ولم يتعد إلى غيرهم. {ولو ترى إذ وقفوا على النار} لما ذكر تعالى حديث البعث في قوله {ويوم نحشرهم} واستطرد من ذلك إلى شيء من أوصافهم الذميمة في الدنيا، عاد إلى الأول وجواب {لو} محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمراً شنيعاً وهولاً عظيماً وحذف جواب {لو} لدلالة الكلام عليه جائز فصيح ومنه {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} الآية. وقول الشاعر: وجدّك لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه و{ترى} مضارع معناه الماضي أي: ولو رأيت فإذ باقية على كونها ظرفاً ماضياً معمولاً لترى وأبرز هذا في صورة المضي وإن كان لم يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي، والظاهر أن الرؤية هنا بصرية وجوزوا أن تكون من رؤية القلب والمعنى ولو صرفت فكرك الصحيح إلى تدبر حالهم لازددت يقيناً أنهم يكونون يوم القيامة على أسوإ حال، فيجتمع للمخاطب في هذه الحالة الخبر الصدق الصريح والنظر الصحيح وهما مدركان من مدارك العلم اليقين والمخاطب ب {ترى} الرسول أو السامع، ومعمول {ترى} محذوف تقديره {ولو ترى} حالهم {إذ} وقفوا. وقيل: {ترى} باقية على الاستقبال و{إذ} معناه إذا فهو ظرف مستقبل فتكون {لو} هنا استعملت استعمال أن الشرطية، وألجأ من ذهب إلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد. وقرأ الجمهور وقفوا مبنياً للمفعول ومعناه عند الجمهور حبسوا على النار. وقال ابن السائب: معناه أجلسوا عليها و{على} بمعنى في أو تكون على بابها ومعنى جلوسهم، أن جهنم طبقات فإذا كانوا في طبقة كانت النار تحتهم في الطبقة الأخرى. وقال مقاتل: عرضوا عليها ومن عرض على شيء فقد وقف عليه. وقيل: عاينوها ومن عاين شيئاً وقف عليه. وقيل: عرفوا مقدار عذابها كقولهم: وقفت على ما عند فلان أي فهمته وتبينته واختاره الزجاج. وقيل: جعلوا وقفاً عليها كالوقوف المؤبدة على سبلها ذكره الماوردي. وقيل: وقفوا بقربها وفي الحديث: «أن الناس يوقفون على متن جهنم». وقال الطبري: أدخلوها ووقف في هذه القراءة متعدية. وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي {وقفوا} مبنياً للفاعل من وقف اللازمة ومصدر هذه الوقوف ومصدر تلك الوقف، وقد سمع في المتعدية أوقف وهي لغة قليلة ولم يحفظها أبو عمرو بن العلاء قال: لم سمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاً واقفاً فقلت له: ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً؛ انتهى. وإنما ذهب أبو عمرو إلى حسن هذا لأنه مقيس في كل فعل لازم أن يعدى بالهمزة، نحو ضحك زيد وأضحكته. {فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} قرأ ابن عامر وحمزة وحفص {ولا نكذب} {ونكون} بالنصب فيهما وهذا النصب عند جمهور البصريين هو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة والتقدير {يا ليتنا} يكون لنا رد وانتفاء تكذيب وكون {من المؤمنين} وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري {ولا نكذب ونكون} بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن {من المؤمنين} انتهى، وليس كما ذكر فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب، لأن الواو لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية، ويميزها من الفاء، تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. وقال سيبويه: والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ومعناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى. لا تنه عن خلق وتأتي مثله. لو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى انتهى كلام سيبويه ملخصاً. وبلفظه ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط، إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينها لا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكون من المؤمنين. قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر {ولا نكذب} بالرفع {ونكون} بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم؛ انتهى. وكان قد قدم أن رفع {ولا نكذب ونكون} في قراءة باقي السبعة على وجهين أحدهما: العطف على {نرد} فيكونان داخلين في التمني. والثاني الاستئناف والقطع، فهذان الوجهان يسوغان في رفع {ولا نكذب} على هذه القراءة وفي مصحف عبد الله فلا نكذب بالفاء وفي قراءة أبي فلا {نكذب بآيات ربنا أبداً ونكون}. وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن {نكون من المؤمنين} وجوزوا في رفع {ولا نكذب ونكون} أن يكون في موضع نصب على الحال فتلخص في الرّفع ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون معطوفاً على {نرد} فيكون انتفاء التكذيب والكون من المؤمنين داخلين في التمني أي وليتنا لا نكذب، وليتنا نكون من المؤمنين، ويكون هذا الرفع مساوياً في هذا الوجه للنصب لأن في كليهما العطف وإن اختلفت جهتاه، ففي النصب على مصدر من الرد متوهم وفي الرّفع على نفس الفعل. (فإن قلت): التمني إنشاء والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب فكيف جاء قوله {وإنهم لكاذبون} وظاهره أن الله أكذبهم في تمنيهم فالجواب من وجهين: أحدهما أن يكون قوله {وإنهم لكاذبون} إخباراً من الله أن سجية هؤلاء الكفار هي الكذب، فيكون ذلك حكاية وإخباراً عن حالهم في الدّنيا لا تعلق به بمتعلق التمني. والوجه الثاني: أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر والعدة فإذا كانت سجية الإنسان شيئاً ثم تمنى ما يخالف السجية وما هو بعيد أن يقع منها، صح أن يكذب على تجوز نحو ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمن في معنى الواعد والمخبر فإذا رزقه الله مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب وكان تمنيه في حكم من قال: إن رزقني الله مالاً كافأتك على إحسانك، ونحو قول رجل شرير بعيد من أفعال الطاعات: ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل، فيجوز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لفعل الخير ولا يصلح لك. والثاني من وجوه الرّفع أن يكون رفع {ولا نكذب ونكون} على الاستئناف فأخبروا عن أنفسهم بهذا فيكون مندرجاً تحت القول أي قالوا: يا ليتنا نرد وقالوا: نحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال. فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار ورجح سيبويه هذا الوجه وشبهه بقوله: دعني ولا أعود، بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني. والثالث من وجوه الرّفع: أن يكون {ولا نكذب ونكون} في موضع نصب على الحال، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيكون داخلاً قيداً في الرد المتمني وصاحب الحال هو الضمير المستكن في نرد ويجاب عن قوله {وإنهم لكاذبون} بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب {ولا نكذب ونكون} إذا كانا معطوفين على نرد. وحكي أن بعض القراء قرأ {ولا نكذب} بالنصب {ونكون} بالرفع فالنصب عطف على مصدر متوهم والرفع في {ونكون} عطف على {نرد} أو على الاستئناف أي ونحن نكون وتضعف فيه الحال لأنه مضارع مثبت فلا يكون حالاً بالواو إلا على تأويل مبتدأ محذوف نحو نجوت، وأرهنهم مالكاً وأنا أرهنهم مالكاً والظاهر أنهم تمنوا الرّد من الآخرة إلى الدنيا. وحكى الطبري تأويلاً في الرّد وهو أنهم تمنوا أن يردوا من عذاب النار إلى الوقوف على النار التي وقفوا عليها فالمعنى: يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين، قال: ويضعف هذا التأويل من غير وجه ويبطله، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولا يصح أيضاً التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى، وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات؛ انتهى. وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال: فإن قيل كيف يتمنون الرّد مع علمهم بتعذر حصوله، وأجاب بقوله: قلنا لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل، والثاني: أن العلم بعدم الرد لا يمنع من الإرادة كقوله: {يريدون أن يخرجوا من النار} {وأن أفيضوا علينا من الماء} انتهى. ولا يرد هذا السؤال لأن التمني يكون في الممكن والممتنع بخلاف الترجّي فإنه لا يكون إلا في الممكن، فورد التمني هنا على الممتنع وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب، والأصح أن {يا} في قوله {يا ليت} حرف تنبيه لا حرف نداء والمنادى محذوف لأنّ في هذا حذف جملة النداء وحذف متعلقة رأساً وذلك إجحاف كثير. {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} {بل} هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما سبق، وهكذا يجيء في كتاب الله تعالى إذا كان ما بعدها من إخبار الله تعالى لا على سبيل الحكاية عن قوم، تكون {بل} فيه للإضراب كقوله {بل افتراه بل هو شاعر} ومعنى {بدا} ظهر. وقال الزجاج: {بل} هنا استدراك وإيجاب نفي كقولهم: ما قام زيد بل قام عمرو؛ انتهى. ولا أدري ما النفي الذي سبق حتى توجبه {بل}. وقال غيره: {بل} رد لما تمنوه أي ليس الأمر على ما قالوه؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رغبة في الإيمان بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة؛ انتهى. ولا أدري ما هذا الكلام، والظاهر أن الضمير في {لهم} عائد على من عاد عليه في وقفوا. قال أبو روق: وهم جميع الكافرين يجمعهم الله ويقول {أين شركاؤكم} الآية فيقولون {والله ربنا} الآية، فتنطق جوارحهم وتشهد بأنهم كانوا يشركون في الدنيا وبما كتموا، فذلك قوله {بل بدا لهم} فعلى هذا يكون من قبل راجعاً إلى الآخرة أي من قبل بدوه في الآخرة. وقال قتادة: يظهر {ما كانوا يخفون} من شركهم. وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، وذلك أنهم لو سئلوا في الدّنيا هل تعاقبون على ما أنتم عليه؟ قالوا: لا ثم ظهر لهم عقوبة شركهم في الآخرة فذلك قوله {بل بدا لهم}. وقيل: كفار مكة ظهر لهم ما أخفوه من أمر البعث بقولهم: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما نحن بمبعوثين بعد الموت} وقيل: المنافقون كانوا يخفون الكفر فظهر لهم وباله يوم القيامة. وقيل: الكفار الذين كانوا إذا وعظهم الرسول خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بهم أتباعهم فيظهر ذلك لهم يوم القيامة. وقيل: اليهود والنصارى وسائر الكفار ويكون الذي يخفونه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحواله والمعنى بدا لهم صدقك في النبوّة وتحذيرك من عقاب الله، وهذه الأقوال على أن الضمير في {لهم} و{يخفون} عائد على جنس واحد. وقيل: الضمير مختلف أي بدا للاتباع ما كان الرؤساء يخفونه عنهم من الفساد، وروي عن الحسن نحو هذا. وقيل: بدا لمشركي العرب ما كان أهل الكتاب يخفونه عنهم من البعث، وأمر النار لأنه سبق ذكر أهل الكتاب في قوله {الذين آتيناهم الكتاب} يعرفونه. وقيل: {بل بدا لهم} أي لبعضهم ما كان يخفيه عنه بعضهم، فأطلق كلاًّ على بعض مجازاً. وقال الزهراوي: ويصح أن يكون مقصود الآية الإخبار عن هول يوم القيامة فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها، فكيف الظنّ على هذا بما كانوا يعلنون به من كفر ونحوه، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة {يوم تبلى السرائر} وقال الزمخشري: {ما كانوا يخفون} من الناس من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا؛ انتهى. {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه} أي {ولو ردّوا} إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار وتمنيهم الرد، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر. قال الزمخشري: والمعاصي؛ انتهى. فأدرج الفساق الذين لم يتوبوا في الموقوفين على النار المتمنين الردّ على مذهبه الاعتزالي وهذه الجملة إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يؤخذ وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه، فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه. قال ابن القشيري: {لعادوا لما نهوا عنه} من الشرك لعلم الله فيهم وأرادته أن لا يؤمنوا في الدنيا، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند. وقال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على المعتزلة على فساد قولهم، وذلك أنه تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ثم بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ثم سألوا الرجعة وردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك وذلك للقضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد؛ انتهى. وأورد هنا سؤال وأظنه للمعتزلة وهو كيف يمكن أن يقال ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر بالله وإلى معصيته وقد عرفوا الله بالضرورة وشاهدوا أنواع العقاب؟ وأجاب القاضي: بأن التقدير ولو ردّوا إلى حالة التكليف وإنما يحصل الردّ إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ومشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا الشرط يكون مضمراً في الآية لا محالة، وضعف جواب القاضي بأن المقصود من الآية غلوهم في الإصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان، ولو قدرنا عدم معرفة الله في القيامة وعدم مشاهدة الأهوال يوم القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم مزيد تعجب، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره البتة؛ انتهى. وإنما المعنى {ولو ردّوا} وقد عرفوا الله بالضرورة وعاينوا العذاب وهم مستحضرون، ذلك ذاكرون له {لعادوا لما نهوا عنه} من الكفر. وقرأ ابراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش {ولو ردوا} بكسر الراء على نقل حركة الدال من ردد إلى الراء. {وإنهم لكاذبون} تقدم الكلام على هذه الجملة وهل التكذيب راجع إلى ما تضمنته جملة التمني من الوعد بالإيمان أو ذلك إخبار من الله تعالى عن عادتهم وديدنهم وما هم عليه من الكذب في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك منقطعاً عما قبله من الكلام. {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} قال الزمخشري: {وقالوا} عطف على {لعادوا} أي لو ردوا لكفروا ولقالوا {إن هي إلا حياتنا الدنيا} كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يعطف على قوله {وإنهم لكاذبون} على معنى وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء، وهم الذين {قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} وكفى به دليلاً على كذبهم؛ انتهى. والقول الأول الذي قدّمه من كونه داخلاً في جواب لو هو قول ابن زيد. وقال ابن عطية: وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله {أليس هذا بالحق} رد على هذا التأويل؛ انتهى. ولا يرده ما ذكره ابن عطية لاختلاف الموطنين لأن إقرارهم بحقية البعث هو في الآخرة، وإنكارهم ذلك هو في الدنيا على تقدير عودهم وهو إنكار عناد فإقرارهم به في الآخرة لا ينافي إنكارهم له في الدنيا على تقدير العود، ألا ترى إلى قوله {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} وقول أبي جهل. وقد علم أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ما معناه أنه لا يؤمن به أبداً هذا وذلك في موطن واحد وهي الدنيا، والقول الثاني الذي ذكره الزمخشري هو قول الجمهور وهو أن يكون قوله {وإنهم لكاذبون} كلاماً منقطعاً عما قبله، وقالوا: إخبار عن ما صدر منهم في حالة الدنيا. قال مقاتل: لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث قالوا: هذا ومعنى الآية إنكار الحشر والمعاد وبين في هذه الآية أن الذي كانوا يخفونه هو الحشر، والمعاد على بعض أقوال المفسرين المتقدمة وإن هنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر، أي لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا، هكذا قال بعض أصحابنا إنه يتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل الظاهر خبراً للمبتدأ المضمر وعده مع الضمير المجرور برب نحو ربه رجلاً أكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني وضربت الزيدين، أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت به زيد قال: أو جعل خبره ومثله بقوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} التقدير إن الحياة إلا حياتنا الدنيا، فإظهار الخبر يدل عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسم أو كان ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد قائم خلافا لابن الطراوة في إنكار هذا القسم وتوضيح هذه المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله: {حياتنا} ولم يؤت بها على أنها صفة تزيل اشتراكاً عارضاً في معرفة لأنهم لا يقرون بأن ثم حياة غير دنيا، بل ذلك وصف على سبيل التوكيد إذ لا حياة عندهم إلا هذه الحياة. {وما نحن بمبعوثين} لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصر صرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق، وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإنكار وهذا يدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث. {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} جواب {لو} محذوف كما حذف في قوله {ولو ترى} أولاً وذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما توقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه وقد تعلق بعض المشبهة بهذه الآية، وقال: ظاهرها يدل على أن الله في حيز ومكان لأن أهل القيامة يقفون عنده وبالقرب منه، وذلك يدل على كونه بحيث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه أخرى. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا خطأ لأن ظاهر الآية يدل على كونهم واقفين على الله كما يقف أحدنا على الأرض، وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً وأنه باطل بالاتفاق فوجب المصير إلى التأويل، فيكون المراد وقفوا على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبر به من أمر الآخرة، أو يكون المراد وقوف المعرفة؛ انتهى. وهذان التأويلان ذكرهما الزمخشري. وقال ابن عطية: على حكمه وأمره؛ انتهى. وقيل: على مسألة ربهم إياهم عن أعمالهم. وقيل: المسألة ملائكة ربهم. وقيل: على حساب ربهم قال: {أليس هذا بالحق} الظاهر أن الفاعل بقال هو الله فيكون السؤال منه تعالى لهم. وقيل: السؤال من الملائكة، فكأنه عائد على من وقفهم على الله من الملائكة أي قال: ومن وقفهم من الملائكة. وقال الزمخشري قال: مردود على من قول قائل قال ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل: {أليس هذا بالحق} وهذا تعيير من الله لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء ما هو بحق وما هو إلا باطل؛ انتهى. ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية التقدير {إذ وقفوا على ربهم} قائلاً لهم {أليس هذا بالحق} والإشارة بهذا إلى البعث ومتعلقاته. وقال أبو الفرج بن الجوزي: أليس هذا العذاب بالحق وكأنه لاحظ قوله قال: {فذوقوا العذاب} {قالوا بلى وربنا} تقدم الكلام على {بلى} وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم {وربنا} وهو إقرار بالإيمان حيث لا ينفع وناسب التوكيد بقولهم {وربنا} صدر الآية في {وقفوا على ربهم} وفي ذكر الرب تذكار لهم في أنه كان يربيهم ويصلح حالهم، إذا كان سيدهم وهم عبيده، لكنهم عصوه وخالفوا أمره. {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي بكفركم بالعذاب والباء سببية فقيل متعلق الكفر البعث أي بكفركم بالبعث. وقيل: متعلقه العذاب أي بكفركم بالعذاب والذوق في العذاب استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي أشد المباشرات. {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوال منكري لبعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيهاً بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ من الكفر سبباً لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سبباً لنجاته، فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله، ومعنى {بلقاء الله} بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها و{حتى} غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم، لأن الخسران لا غاية له والتكذيب مغيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم {يا حسرتنا} وقت مجيء الساعة، وتقدم الكلام على {حتى إذا} في قوله: {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} ومعنى {بلقاء الله} بلقاء جزائه والإضافة تفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير «لقي الله وهو عليه غضبان»، أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالى في جهة استدل بهذا، وقال: اللقاء حقيقة و{الساعة} يوم القيامة سمّى ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله: {أسرع الحاسبين} قال ابن عطية: وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرك لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها، وأيضاً فقد تضمنها قوله {بلقاء الله} انتهى. ثم غلب استعمال {الساعة} على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها للغلبة كهي في البيت للكعبة والنجم للثريا. وقال الزمخشري (فإن قلت): إنما يتحسرون عند موتهم (قلت): لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها، جعل من جنس الساعة وسمّي باسمها ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته». وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فتره؛ انتهى. وإطلاق {الساعة} على وقت الموت مجاز، ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرون يوم القيامة، بل الظاهر ذلك لقوله: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} إذ هذا حال من قولهم: {قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} وهي حال مقارنة، وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالاً مقدرة ومجيء القدرة بالنسبة إلى المقارنة قليل، فيكون التكذيب متصلاً بهم مغياً بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهم طريقة يوم واحد، كما قال تعالى: {إن لبثتم إلا يوماً} فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهم به الرسل عياناً فقالوا {يا حسرتنا} وجوزوا في انتصاب {بغتة} أن يكون مصدراً في موضع الحال من {الساعة} أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدراً لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم. قال سيبويه: وكان الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً في نداء الجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم: يا جمل، و{فرطنا} قصرنا والتفريط التقصير مع القدرة على تركه، والضمير في {فيها} عائد على {الساعة} أي في التقدمة لها قاله الحسن، أو الصفقة التي تضمنها ذكر الخسارة قاله الطبري. وقال الزمخشري: الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو الساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول: فرطت في فلان ومنه {فرطت في جنب الله} انتهى. وكونه عائداً على الدنيا وهو قول ابن عباس، ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عطية هذا القول احتمالاً فقال: يحتمل أن يعود الضمير على الدنيا، إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار؛ انتهى، وعوده على {الساعة} قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها. وقيل: يعود الضمير على {ما} وهي موصول وعاد على لمعنى أي {يا حسرتنا} على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها، وما في الأوجه التي سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذي تقدم، والظاهر عوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لو كانوا آمنوا. {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} الأوزار الخطايا والآثام قاله ابن عباس، والظاهر أن هذا الحمل حقيقة وهو قول عمير بن هانئ وعمرو بن قيس الملائي والسدي واختاره الطبري، وما ذكره محصوله أن عمله يمثل في صورة رجل قبيح الوجه والصورة خبيث الريح فيسأله فيقول: أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فيركبه ويتخطى به رقاب الناس ويسوقه حتى يدخله النار، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى واللفظ مختلف. وقيل: هو مجاز عبر بحل الوزر عن ما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عليهم وهذا القول بدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره قال كقوله: {فبما كسبت أيديكم} لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي والواو في {وهم} واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكوراً مرتين من حيث المعنى وخص الظهر لأنه غالباً موضع اعتياد الحمل ولأنه يشعر بالمبالغة في ثقل المحمول إذ يطيق من الحمل الثقيل ما لا تطيقه الرأس ولا الكاهل، كما قال {فلمسوه بأيديهم} لأن اللمس أغلب ما يكون باليد ولأنها أقوى في الإدراك. {ألا ساء ما يزرون} {ساء} هنا تحتمل وجوهاً ثلاثة. أحدها: أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون، وتحتمل {ما} على هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي، فتكون فاعلة ويحتمل أن تكون {ما} مصدرية فينسبك منها ما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا ساءهم وزرهم. والوجه الثاني: أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجب والمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما. والثالث: أنها أيضاً حوّلت إلى فعل بضم العين، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية لبئس في المعنى والأحكام، ويكون إطلاق الذي سبق في {ما} في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} جارياً فيها هنا، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذي قبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدإ وخبر، إنما هو منعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر، وإن الكلام فيه خبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب بئس فقط فقال: {ساء ما يزرون} بئس شيئاً يزرون وزرهم كقوله: {ساء مثلاً القوم} وذكر ابن عطية هذا الوجه احتمالاً أخيراً وبدأ بأن {ساء} متعدية و{ما} فاعل كما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد. قال كقول الشاعر: رضيت خطة خسف غير طائلة *** فساء هذا رضا يا قيس عيلانا ولا يتعين ما قال في البيت من أن الكلام فيه خبر مجرد؛ بل يحتمل قوله: فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة وافتتحت هذه الجملة ب {إِلا} تنبيهاً وإشارة لسوء مرتكبهم فألا تدل على الإشارة بما يأتي بعدها كقوله: ألا فليبلغ الشاهد الغائب {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه} ألا لا يجهلن أحد علينا. {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} لما ذكر قولهم وقالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} ذكر مصيرها وإن منتهى أمرها أنها فانية منقضية عن قريب، فصارت شبيهة باللهو واللعب إذ هما لا يدومان ولا طائل لهما كما أنها لا طائل لها، فاللهو واللعب اشتغال بما لا غنى به ولا منفعة كذلك هي الدنيا بخلاف الاشتغال بأعمال الآخرة فإنها التي تعقب المنافع والخيرات. وقال الحسن: في الكلام حذف التقدير وما أهل الحياة إلا أهل لعب ولهو. وقيل: التقدير وما أعمال الحياة. وقال ابن عباس: هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتطوى على أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً وفي الحديث: «ما أنا من الدد ولا الدد مني» والدد اللعب واللعب واللهو قيل: هما بمعنى واحد وكرر تأكيداً لذم الدنيا. وقال الرماني: اللعب عمل يشغل عما ينتفع به إلى ما لا ينتفع به، واللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل يقال: لهيت عنه أي صرفت نفسي عنه ورد عليه المهدوي، فقال هذا: فيه ضعف وبعد لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان ولام الأول واو؛ انتهى. وهذا التضعيف ليس بشيء لأن فعل من ذوات الواو تنقلب فيه الواو ياء كما تقول: شقي فلان وهو من الشقوة فكذلك لهي، أصله لهو من ذوات الواو فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها فقالوا: لهي كما قالوا: حلى بعيني وهو من الحلو وأما استدلاله بقولهم في التثنية لهيان ففاسد لأن التثنية هي كالفعل تنقلب فيه الواو ياء لأن مبناها على المفرد وهي تنقلب في المفرد في قولهم: له اسم فاعل من لهي كما قالوا: شج وهو من الشجو، وقالوا في تثنيته: شجيان بالياء وقد تقدم ذكر شيء من هذا في المفردات. وقرأ ابن عامر وحده ولدار الآخرة على الإضافة، وقالوا: هو كقولهم: مسجد الجامع فقيل هو من إضافة الموصوف إلى صفته. وقال الفراء: هي إضافة الشيء إلى نفسه كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين؛ انتهى. وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي ولدار الحياة الآخرة، ويدل عليه وما الحياة الدنيا وهذا قول البصريين، وحسن ذلك أن هذه الصفة قد استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل كقوله {وإن لنا للآخرة والأولى} وقوله {وللآخرة خير لك من الأولى} وقرأ باقي السبعة {وللدار الآخرة} بتعريف الدار بأل ورفع {الآخرة} نعتاً لها و{خير} هنا أفعل التفضيل وحسن حذف المفضل عليه لوقوعه خبراً والتقدير من الحياة الدنيا، وقيل: {خير} هنا ليست للتفضيل وإنما هي كقوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} إذ لا اشتراك بين المؤمن والكافر في أصل الخير، فيزيد المؤمن عليه بل هذا مختص بالمؤمن. والدار الآخرة قال ابن عباس: هي الجنة. وقيل ذلك مجاز عبر به عن الإقامة في النعيم كما قال الشاعر: لله أيام نجد والنعيم بها *** قد كان داراً لنا أكرم به دارا ومعنى الذين يتقون يتقون الشرك لأن المؤمن الفاسق ولو قدرنا دخوله النار فإنه بعد يدخل الجنة فتصير الدار الآخرة خيراً له من دار الدنيا، وذكر عن ابن عباس خير لمن اتقى الكفر والمعاصي وقال في المنتخب نحوه قال: بين الله تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين المعاصي والكبائر، فأما الكافرون والفاسقون فلا لأن الدنيا بالنسبة إليهم خير من الآخرة؛ انتهى، وهو أشبه بكلام المعتزلة. وقال الزمخشري: وقوله: {للذين يتقون} دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لهو ولعب، انتهى. وقد أبدى الفخر الرازي الخيرية هنا فقال: خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة، وبيانه أن خيرات لدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة، بدليل مشاركة الحيوانات الخسيسة في ذلك وزيادة بعضها على الإنسان في ذلك كالجمل في كثرة الأكل والديك في كثرة الوقاع والذئب في القوة على الفساد، والتمزيق والعقرب في قوّة الإيلام وبدليل أن الإكثار من ذلك لا يوجب شرفاً بل المكثر من ذلك ممقوت مستقذر مستحقر يوصف بأنه بهيمة، وبدليل عدم الافتخار بهذه الأحوال بل العقلاء يخفونها ويختفون عند فعالها ويكنون عنها ولا يصرّحون بها إلا عند الشتم بها، وبأن حقيقة اللذات دفع آلام وبسرعة انقضائها فثبت بهذه الوجوه خساسة هذه اللذات، وأما السعادات الروحانية فسعادات عالية شريفة باقية مقدسة وذلك أن جميع الخلق إذا تخيلوا في إنسان كثرة العلم وشدّة الانقباض عن اللذات الجسمانية، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدّون أنفسهم عبيداً له وأشقياء بالنسبة إليه، ولو فرضنا تشارك خيرات الدنيا وخيرات الآخرة في التفضيل لكانت خيرات الآخرة أفضل، لأن الوصول إليها معلوم قطعاً وخيرات الدنيا ليست معلومة بل ولا مظنونة، فكم من سلطان قاهر بكرة يوم أمسى تحت التراب آخره؛ وكم مصبح أميراً عظيماً أمسى أسيراً حقيراً؟ ولو فرضنا أنه وجد بعد سرور يوم يوماً آخر، فإنه لا يدري هل ينتفع في ذلك اليوم بما جمع من الأموال والطيبات واللذات؟ بخلاف موجب السعادات الأخروية فإنه يقطع أنه ينتفع بها في الآخرة وهب أنه انتفع بها، فليس ذلك الانتفاع خالياً من شوائب المكروهات والمحزنات وهب أنه انتفع في الغد فإنها تنقضي ويحزم عند انقضائها، كما قال الشاعر: أشدّ الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية، وأيضاً ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص {أفلا تعقلون} بالتاء خطاب مواجهة لمن كان بحضرة الرسول من منكري البعث. وقرأ الباقون بالياء عوداً على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدّنيا. وقيل: أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا.
|